فصل: التفسير المأثور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاء إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (9)}.
الضمير في {يروا} لهؤلاء {الذين لا يؤمنون بالآخرة} [سبأ: 8] وقفهم الله تعالى على قدرته وخوفهم من إحاطتها بهم، المعنى أليس يرون أمامهم ووراءهم سمائي وأرضي لا سبيل لهم إلى فقد ذلك عن أبصارهم، ولا عدم إحاطته بهم، وقرأ الجمهور {إن نشأ نخسف} و {نسقط} بالنون في الثلاثة وقرأ حمزة والكسائي {إن يشأ يخسف بهم} أو {يسقط} بالياء في الثلاثة وهي قراءة ابن وثاب وابن مصرف والأعمش وعيسى واختارها أبو عبيد، وخسف الأرض هو إهواؤها بهم وتهورها وغرقهم فيها، والكسف قيل هو مفرد اسم القطعة، وقيل هو جمع كسفه جمعها على حد تمرة وتمر ومشهور جمعها كسف كسدرة وسدر وأدغم الكسائي الفاء في الباء في قوله: {نخسف بهم} قال أبو علي وذلك لا يجوز لأن الباء أضعف في الصوت من الفاء فلا تدغم فيها وإن كان الباء تدغم في الفاء كقوله اضرب فلانًا، وهذا كما تدغم الباء في الميم كقوله اضرب محمدًا ولا تدغم الميم في الباء كقولك اضمم بكرًا، لأن الباء انحطت عن الميم بفقد الغنة التي في الميم، والإشارة بقوله تعالى {في ذلك} إلى إحاطة السماء بالمرء ومماسة الأرض له على كل حال، والمنيب الراجع التائب، ثم ذكر تعالى نعمته على داود وسليمان احتجاجًا على ما منح محمدًا، أي لا تستبعدوا هذا فقد تفضلنا على عبدنا قديمًا بكذا وكذا، فلما فرغ التمثيل لمحمد صلى الله عليه وسلم رجع التمثيل لهم بسبأ وما كان من هلاكهم بالفكر والعتو، والمعنى قلنا {يا جبال} و {أوبي} معناه ارجعي معه لأنه مضاعف آب يئوب، فقال ابن عباس وقتادة وابن زيد وغيرهم معناه سبحي معه أي يسبح هو وترجع هي معه التسبيح، أي ترده بالذكر ثم ضوعف الفعل للمبالغة، وقيل معناه سيري معه لأن التأويب سير النهار كان الإنسان يسير بالليل ثم يرجع السير بالنهار أي يردده فكأنه يئوبه، فقيل له التأويب ومنه قول الشاعر: البسيط:
يومان يوم مقامات وأندية ** ويوم سير إلى الأعداء تأويب

ومنه قول ابن أبي مقبل: الطويل:
لحقنا بحي أوبوا السير بعدما ** دفعنا شعاع الشمس والطرف مجنح

وقال مروح {أوبي} سبحي بلغة الحبشة.
قال القاضي أبو محمد: وهذا ضعيف غير معروف، وقال وهب بن منبه: المعنى نوحي معه والطير تسعدك على ذلك، قال فكان داود إذا نادى بالنياحة والحنين أجابته الجبال وعكفت الطير عليه من فوقه، قال فمن حينئذ سمع صدى الجبال، وقرأ الحسن وقتادة وابن أبي إسحاق {أوبي} بضم الهمزة وسكون الواو أي ارجعي معه أي في السير أو في التسبيح، وأمر الجبال كما تؤمر الواحدة المؤنثة لأن جمع ما لا يعقل كذلك يؤمر وكذلك يكنى عنه ويوصف ومنه المثل يا خيل الله اركبي ومنه {مآرب أخرى} [طه: 18] وهذا كثير، وقرأ الأعرج وعاصم بخلاف وجماعة من أهل المدينة {والطيرُ} بالرفع عطفًا على لفظ قوله: {يا جبال} وقرأ نافع وابن كثير والحسن وابن أبي إسحاق وأبو جعفر {والطيرَ} بالنصب فقيل ذلك عطف على {فضلًا} وهو مذهب الكسائي، وقال سيبويه هو على موضع قوله: {يا جبال} لأن موضع المنادى المفرد نصب، وقال أبو عمرو: نصبها بإضمار فعل تقديره وسخرنا الطير، {وألنا له الحديد} معناه جعلناه لينًا، وروى قتادة وغيره أن الحديد كان له كالشمع لا يحتاج في عمله إلى نار، وقيل أعطاه قوة يثني بها الحديد، وروي أنه لقي ملكًا وداود يظنه إنسانًا وداود متنكر خرج ليسأل الناس عن نفسه في خفاء، فقال داود لذلك الشخص الذي تمثل فيه الملك ما قولك في هذا الملك داود؟ فقال له الملك: نعم العبد لولا خلة فيه، قال داود وما هي؟ قال: يرتزق من بيت المال ولو أكل من عمل يديه لتمت فضائله، فرجع فدعا الله تعالى في أن يعلمه صنعة ويسهلها عليه فعلمه تعالى صنعة لبوس وألان له الحديد، فكان فيما روي يصنع ما بين يومه وليلته درعًا تساوي ألف درهم حتى ادخر منها كثيرًا وتوسعت معيشة منزله، وكان ينفق ثلث المال في مصالح المسلمين، وقوله تعالى: {أن اعمل} قيل إن {أن} مفسرة لا موضع لها من الإعراب، قيل هي في موضع نصب بإسقاط حرف الجر، والسابغات الدروع الكاسيات ذوات الفضول، قال قتادة داود عليه السلام أول من صنعها، ودرع الحديد مؤنث ودرع المرأة مذكر، وقوله تعالى: {وقدر في السرد} اختلف المتأولون في أي شيء هو التقدير من أشياء السرد، إذ السرد هو اتباع الشيء بالشيء من جنسه، قال الشماخ: كما تابعت سرد العنان الخوارز، ومنه سرد الحديث، وقيل للدرع مسرودة لأنها توبعت فيها الحلق بالحلق ومنه قول الشاعر القرطبي: الكامل:
وعليهما مسرودتان قضاهما ** داود أو صَنَعُ السوابغ تبع

ومنه قول دريد بالفارسي المسرد، فقال ابن زيد: التقدير الذي أمر به هو في قدر الحلقة أي لا تعملها صغيرة فتضعف ولا تقوى الدرع على الدفاع ولا تعملها كبيرة فينال لاسبها من خلالها، وقال ابن عباس التقدير الذي أمر به هو المسمار يريد ثقبه حين يشد نتيرها، وذكر البخاري في مصنفه ذلك فقال: المعنى لا تدق المسمار فيسلسل، ويروى فيتسلسل، ولا تغلظه فيقصم بالقاف، وبالفاء أيضًا رواية، وروى قتادة أن الدروع كانت قبله صفائح فكانت ثقالًا، فلذلك أمر هو بالتقدير فيما يجمع بين الخفة والحصانة، أي قدر ما يأخذ هذين المعنيين بقسطه، أي لا تقصد الحصانة فتثقل ولا الخفة وحدها فتزيل المنعة، وقوله تعالى: {واعملوا صالحًا} لما كان الأمر لداود وآله حكى وإن كانوا لم يجر لهم ذكر لدلالة المعنى عليهم، ثم توعدهم تعالى بقوله: {إني بما تعملون بصير} أي لا يخفى علي حسنه من قبيحة وبحسب ذلك يكون جزائي لكم. اهـ.

.التفسير المأثور:

قال السيوطي:
{وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا}.
أخرج ابن أبي شيبة في المنصف وابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: {أوّبي معه} قال: سبحي معه.
وأخرج ابن جرير عن أبي ميسرة رضي الله عنه {أوّبي معه} قال: سبحي معه بلسان الحبشة.
وأخرج الفريابي وعبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد رضي الله عنه {أوّبي معه} قال: سبحي.
وأخرج عبد بن حميد عن عكرمة وأبي عبد الرحمن، مثله.
وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن زيد رضي الله عنه في قوله: {يا جبال أوّبي معه والطير} أيضًا يعني يسبح معه الطير.
وأخرج أبو الشيخ في العظمة عن وهب رضي الله عنه قال: أمر الله الجبال والطير أن تسبح مع داود عليه السلام إذا سبح.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن زيد رضي الله عنه أنه قرأ {الطير} بالنصب بجملة قال: سخرنا له الطير.
وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: {وألنَّا له الحديد} قال: كالعجين.
وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر عن قتادة رضي الله عنهما في قوله: {وألنَّا له الحديد} قال: ليَّن الله له الحديد فكان يسرده حلقًا بيده يعمل به كما يعمل بالطين من غير أن يدخله النار، ولا يضربه بمطرقة، وكان داود عليه السلام أول من صنعها، وإنما كانت قبل ذلك صفائح من حديد، يتحصنون بها من عدوهم.
وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن رضي الله عنه في قوله: {وألنَّا له الحديد} فيصير في يده مثل العجين. فيصنع منه الدروع.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم من طرق عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: {وقدر في السرد} قال: حلق الحديد.
وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن قتادة رضي الله عنه في قوله: {وقدر في السرد} قال: السرد المسامير التي في الحلق.
وأخرج عبد الرزاق والحاكم عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: {وقدر في السرد} قال: لا تدق المسامير. وتوسع الحلق فتسلسل، ولا تغلظ المسامير وتضيق الحلق، فتنقصم واجعله قدرًا.
وأخرج الفريابي وعبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد رضي الله عنه {وقدر في السرد} قال: قدر المسامير والحلق، لا تدق المسمار فيسلسل، ولا تحلها فينقصم.
وأخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول وابن أبي حاتم عن ابن شوذب رضي الله عنه قال: كان داود عليه السلام يرفع في كل يوم درعًا فيبيعها بستة آلاف درهم؛ ألفين له ولأهله، وأربعة آلاف يطعم بها بني إسرائيل الخبز الحواري. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال مجد الدين الفيروزابادي:
بصيرة في فضل:
الفَضْل: ضدّ النقص، والجمع: فُضُول وقد فَضَل، كنصر وعلم وأَمّا فَضِل يفْضُل فمرّكبة منهما ورجل فَضَّالٌ ومِفْضَلٌ ومِفْصَالٌ: كثير الفضل والفَضِيلة: الدّرجة الرّفيعة في الفضل والفواضل: الأَيادى الجسيمة والفَضِيلة: الدّرجة والفَضْل والفُضَالة: البقيّة، وقد فضل كنصر وحَسِب والفَضْل يكون محمودًا كفضل العلم والحلم، ومذمومًا كفضل الغضب على ما يجب أَن يكون عليه، قال الشاعر:
متى زدتُ تقصيرا تزدنى تفضُّلا ** كأَنِّىَ بالتقصير أَستوجِب الفضلا

وقد ورد الفضل وما يشتق منه على عشرين وجهًا في القرآن:
1- فضل الصّورة والخِلْقة: {وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا}.
2- فضل قوم على آخرين في المنزلة والرّتبة: {وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ}.
3- فضل بالنبوّة والعلم: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِّنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ}.
4- فضل معجزة وكرامة: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا}.
5- فضل الأَنبياء بعضهم على بعض: {وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ}.
وهذا التفضيل فيهم على نوعين: خِلْقىّ وخُلُقى.
فالخِلْقىّ كما في آدم بالصفوة، وفي نوح بالصّلابة، وفي إِبراهيم بالخُلَّة والصدّق والصّداقة، وفي يوسف بالصّباحة، وفي موسى بالملاحة، وفي داود بالنغّمة، وفي سليمان في الفطنة، وفي زكريّا بالعبادة، وفي يحيى بالطَّهارة، وفي محمد بالخُلُق والفصاحة.
وأَمّا التفضيل الخُلُقى ففى آدم بالأَسماء، وفي نوح بإِجابة الدعاء، وفي إِبراهيم بالذبيح والفداء، وفي يوسف بتعبير الرؤْيا، وفي موسى بالمكالمة والاصطفاء، وفي داود بتسخير الجبال والطير في الهواء، وفي سليمان بتسخير الجنّ وريح الصَّبا، وفي عيسى بإِحياء الموتى، وفي محمّد بالقرآن ذى النّور والضّياء، صلوات الله وسلامه عليهم أَجمعين.
6- فضل تأْخير العذاب:
{وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ} {وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ} {وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُمْ مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا} وله نظائر.
7- فضل زيادة الثَّواب والكرامة: {وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء}.
8- فضل المال والنّعمة: {فَلَمَّا آتَاهُمْ مِّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ}.
9- فضل البرِّ والصّدقة: {وَاللَّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلًا}.
10- فضل الرّجال على النساء بالعقل والعلم والدّين والشجاعة والإِمامة والكتابة والفروسيّة والشهادة وقسمة الميراث والخطابة: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ}.
11- فضل النبوّة والرّسالة: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ} إِلى قوله: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ}.
12- فضل الظفر والغنيمة: {فَانْقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ}.
13- فضل الغزو والمجاهدة: {وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ}.
14- فضل الغنى والنعمة: {وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الْرِّزْقِ}.
15- فضل الكسب والتِّجارة: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلًا مِّن رَّبِّكُمْ} {يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ} {فَانتَشِرُواْ فِي الأَرْضِ وَابْتَغُواْ مِن فَضْلِ اللَّهِ}.
16- فضل الاختيار وَالمزية: {وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا}.
17- فضل قبول التَّوبة والإِنابة: {وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} أي بقبول التَّوبة.
18- فضل إِجابة الدّعاء وقضاء الحاجة: {وَاسْأَلُواْ اللَّهَ مِن فَضْلِهِ}.
19- فضل القُرْبة واللقاء والرُؤْية: {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِّنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا}.
20- فضل الإِسلام والسنَّة والتوحيد والمعرفة: {إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء}. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

من لطائف القشيري في الآية:
قال عليه الرحمة:
{وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا}.
{داود} اسم أعجمي، وقيل سمي داود لأنه داوى جَرْحه، وَرَدَ في القصة أنه قال في إحدى مناجاته: يا رب، إني أرى في التوارة ما أعطيتَ لأوليائك وأَنبيائك من الرتب فأعطنيها فقال: إني ابتليتهم فصبروا، فقال: إني أصبر على بلائك، فأَعْطني ما أعطيتهم، فأبلاه، فوقف، فأعطاه ما أعطاهم.
{وَلَقَدْ ءَاتينَا دَاوُدَ مِنَّا فَضْلًا} تكلموا في هذا الفضل؛ فمنهم مَنْ أراد ما ذكره بعده وهو قوله للطير: {أَوِّبِى مَعَهُ} وكذلك الجبال، وكان في ذلك تنفيس في وقت حُزْنِه وبكائه. وقيل ذلك الفضلُ رجوعُه إلى الله- في حال ما وقع له- بالتنصل والاعتذار. ويقال هو شهودُه موضِعَ ضرورته وأنه لا يُصْلِحُ أمرَه غيرُه. ويقال طيب صوته عند قراءة الزبور حَتى كان ليرْغبُ في متَابعته مَنْ يسمع إليه. ويقال حلاوةُ صوته في المناجاة. ويقال حُسنُ خُلقه مع أمته الذين اتبعوه، ويقال توفيقه للحكم بين أمته بالعدل.
قوله: {يَاجِبَالُ أَوِّبِى مَعَهُ وَالطَّيْرَ} أمرَ الجبالَ والطيرَ بمجاوبته حتى خرَجَ إلى الجبال والصحارى ينوح على نفسهِ.
ويقال أوحى الله له: يا داود، كانت تلك الزَّلَّةُ مباركةً عليك! فقال. يا رب، وكيف؟ فقال: كنتَ تجيء قبلها كما يجيء المطيعون والآن تجيء كما يجيء أهل الذنوب!
يا داود، إن أنينَ المذْنبين أحبُّ إليّ من صُراخ العابدين!
ويقال، كان داود يقول. اللهمّ لا تَغفرْ للخاطئين، غيرةً منه وصلابةً في الدين... فلما وقع له ما وقع كان يقول. اللهم اغفر للمذنبين، فعسى أن تغفرَ لداود فيما بينهم.
ويقال لمَّا تاب الله عليه، واجتمع الإنسُ والجنُّ والطير بمجلسه، وَرَفع صوتَه، وأداره في حَنَكِه على حسب ما كان من عادته تفرّقت الطيور وقَالوا. الصوتُ صوتُ داود والحال ليست تلْك! فأوحَى اللَّهُ إليه هذه وَحْشةُ الزّلة، وتلك كانت أُنسَ الطاعة.. فكان داودُ يبكي وينوح ويصيح والطير والجبالُ معه.
وَيقال ليس كلُّ مَنْ صاح وراءه معنى، فالمعنى كان مع داود لا مع الجبال والطير.
{أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدَِّرْ في السَّرْدِ وَاعْمَلُواْ صَالِحًا}. ألان له الحديدَ، وجعل ذلك معجزةً له، وجعل فيه توسعةَ رزقه، ليجدَ في ذلك مكسبًا، لِيَقْطَعَ طَمَعَه عن أُمته في ارتفاقه بهم ليباركَ لهم في اتِّباعِه. اهـ.